فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ظَهَر الفسادُ في البَرّ والبحر}.
في هذا الفساد أربعة أقوال.
أحدها: نقصان البَرَكة، قاله ابن عباس.
والثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية.
والثالث: الشّرك، قاله قتادة، والسدي.
والرابع: قحط المطر، قاله عطية.
فأما البَرّ.
فقال ابن عباس: البَرُّ: البرّيَّة التي ليس عندها نهر.
وفي البحر قولان:
أحدهما: أنه ما كان من المدائن والقرى على شطّ نهر، قاله ابن عباس.
وقال عكرمة: لا أقول: بحرُكم هذا، ولكن كل قرية عامرة.
وقال قتادة: المراد بالبَرّ: أهل البوادي، وبالبحر: أهل القرى.
وقال الزجاج: المراد بالبحر: مدن البحر التي على الأنهار، وكل ذي ماءٍ فهو بحر.
والثاني: أن البحر: الماء المعروف.
قال مجاهد: ظهور الفساد في البر: قتل ابن آدم أخاه، وفي البحر: مَلك جائر يأخذ كل سفينة غصبًا.
وقيل لعطيَّة: أيّ فساد في البحر؟ فقال: إذا قلَّ المطر قل الغَوص.
قوله تعالى: {بما كسبتْ أيدي الناس} أي: بما عملوا من المعاصي {ليُذيقَهم} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وابن محيصن، وروح عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير: {لنُذيقَهم} بالنون {بعضَ الذي عَملوا} أي: جزاء بعض أعمالهم؛ فالقحط جزاءٌ، ونقصان البركة جزاءٌ، ووقوع المعصية منهم جزاءٌ معجَّل لمعاصيهم أيضًا.
قوله تعالى: {لعلَّهم يَرجعونَ} في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الذين أُذيقوا الجزاءَ، ثم في معنى رجوعهم قولان:
أحدهما: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية.
والثاني: يرجعون إلى الحق، قاله إبراهيم.
والثاني: أنهم الذين يأتون بعدهم؛ فالمعنى: لعلَّه يرجع مَنْ بعدَهُم، قاله الحسن.
قوله تعالى: {قُل سيروا في الأرض} أي: سافروا {فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين منْ قَبْلُ} أي: الذين كانوا قبلكم؛ والمعنى: انظروا إلى مساكنهم وآثارهم {كان أكثرهم مشركين} المعنى: فأُهلكوا بشركهم.
{فأقَم وجهك للدّين} أي: أَقم قصدك لاتّباع الدّين {القيّم} وهو الإسلام المستقيم {منْ قَبْل أن يأتيَ يومٌ لا مَرَدَّ له من الله} يعني: يوم القيامة لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، لأن الله تعالى قد قضى كونه {يَومَئذٍ يَصَّدَّعون} أي: يتفرَّقون إلى الجنة والنار.
{من كَفَرَ فعليه كُفره} أي: جزاء كفره {ومن عمل صالحًا فلأنفُسهم يَمْهَدُونَ} أي: يُوَطّئُون.
وقال مجاهد: يسوُّون المضاجع في القبور، قال أبو عبيدة: مَنْ يقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث، ومجازها هاهنا مجاز الجميع، و{يَمْهَد} بمعنى يكتسب ويعمل ويستعدّ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ} ابتداء وخبر.
وعاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين وأنه الخالق الرازق المميت المحيي.
ثم قال على جهة الاستفهام: {هَلْ من شُرَكَآئكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَيْءٍ} لا يفعل.
ثم نزّه نفسه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والأولاد بقوله الحق: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْركُونَ} وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء، ويجعلون لهم من أموالهم.
قوله تعالى: {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} اختلف العلماء في معنى الفساد والبر والبحر؛ فقال قتادة والسدّي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد.
وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: فساد الْبَرّ قتلُ ابن آدم أخاه؛ قابيلُ قتل هابيل.
وفي البحر بالْمَلك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا.
وقيل: الفساد القحط وقلّة النبات وذهاب البركة.
ونحوه قال ابن عباس قال: هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا.
قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية.
وعنه أيضًا: أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم.
وقال عطية: فإذا قلّ المطرقّل الغَوْص عنده، وأخفق الصيادون، وعميت دواب البحر.
وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلّة المعاش.
وقيل: الفساد المعاصي وقطعُ السبيل والظلم؛ أي صار هذا العمل مانعًا من الزرع والعمارات والتجارات؛ والمعنى كله متقارب.
والبر والبحر هما المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس؛ لا ما قاله بعض العُبّاد: أن البر اللسانُ والبحر القلب؛ لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب.
وقيل: البَر: الفيافي، والبحر: القرى؛ قاله عكرمة.
والعرب تسمي الأمصار البحار.
وقال قتادة: البَرّ أهل العمود، والبحر أهل القرى والريف.
وقال ابن عباس: إن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر؛ وقاله مجاهد، قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جارٍ فهي بحر.
وقال معناه النحاس، قال: في معناه قولان: أحدهما: ظهر الجَدْب في البر؛ أي في البوادي وقراها، وفي البحر أي في مدن البحر؛ مثل: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر.
{بمَا كَسَبَتْ أَيْدي الناس ليُذيقَهُمْ بَعْضَ} أي عقاب بعض {الذي عَملُوا} ثم حذف.
والقول الآخر: أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأوّل مجاز إلا أنه على الجواب الثاني، فيكون في الكلام حذف واختصار دلّ عليه ما بعده، ويكون المعنى: ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهما الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} لعلهم يتوبون.
وقال: {بَعْضَ الَّذي عَملُوا} لأن معظم الجزاء في الآخرة.
والقراءة {ليُذيقَهُمْ} بالياء.
وقرأ ابن عباس بالنون، وهي قراءة السُّلَمي وابن مُحَيْصن وقُنْبُل ويعقوب على التعظيم؛ أي نذيقهم عقوبة بعض ما عملوا.
قوله تعالى: {قُلْ سيرُوا في الأرض} أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض ليعتبروا بمن قبلهم، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل.
{كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْركينَ} أي كافرين فأهلكوا.
قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدّين القيم؛ يعني الإسلام.
وقيل: المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم.
{من قَبْل أَن يَأْتيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ الله} أي لا يردّه الله عنهم، فإذا لم يردّه لم يتهيأ لأحد دفعه.
ويجوز عند غير سيبويه {لاَ مَرَدٌّ لَهُ} وذلك عند سيبويه بعيد، إلا أن يكون في الكلام عطف.
والمراد يوم القيامة.
{يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} قال ابن عباس: معناه يتفرّقون.
وقال الشاعر:
وكنّا كَنَدْمَانَيْ جَذيمةَ حقْبَةً ** من الدهر حتى قيل لن يَتَصدّعا

أي لن يتفرقا؛ نظيره قوله تعالى: {يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {فَريقٌ في الْجَنَّة وَفَريقٌ في السَّعير}.
والأصل يتصدّعون؛ ويقال: تصدّع القوم إذا تفرّقوا؛ ومنه اشتق الصداع، لأنه يفرق شُعب الرأس.
قوله تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} أي جزاء كفره.
{وَمَنْ عَملَ صَالحًا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} أي يوطّئون لأنفسهم في الآخرة فراشًا ومسكنًا وقرارًا بالعمل الصالح؛ ومنه: مهدُ الصبيّ.
والمهاد الفراشُ، وقد مهدت الفراش مَهْدًا: بسطته ووطّأته.
وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها.
وتمهيد العذر: بسطُه وقبوله.
والتمهّد: التمكن.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {فَلأَنْفُسهمْ يَمْهَدُونَ} قال: في القبر.
قوله تعالى: {ليَجْزيَ الذين آمَنُوا} أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله.
وقيل يصدّعون ليجزيهم الله؛ أي ليميّز الكافر من المسلم.
{إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{بما كسبت} جزاء ما كسبت، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر، وهو نفس الفساد الظاهر.
وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمرو: لنذيقهم، بالنون؛ والجمهور: بالياء، ثم أمرهم بالمسير في الأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
{كان أكثرهم مشركين} أهلكهم كلهم بسبب الشرك، وقوم بسبب المعاصي، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي، كما يهلك بالشرك، كأصحاب السبت.
أو أهلكهم كلهم، المشرك والمؤمن، كقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وأهلكهم كلهم، وهم كفار، فأكثرهم مشركون، وبعضهم معطل.
وحين ذكر امتنانه قال: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق.
وحين ذكر خذلانهم بالطغيان، بسبب البقاء بإظهار الفساد، ثم بسبب الوجود بالإهلاك.
{من قبل أن يأتي يوم} يوم القيامة، وفيه تحذير يعم الناس، {لا مرد له من الله} المرد: مصدر رد، ومن الله: يحتمل أن يتعلق بيأتي، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله: {فلا يستطيعون ردها} ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به، ولا رد له من جهته.
{يومئذ} أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم.
{يصدعون} يتفرقون، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

ثم ذكر حالتي المتفرقين: {من كفر فعليه كفره} أي جزاء كفره، وعبر عن حالة الكافر بعليه، وهي تدل على الفعل والمشقة، وعن حال المؤمن بقوله: {فلأنفسهم} باللام التي هي لام الملك.
و{يمهدون} يوطئون، وهي استعارة من الفرش، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة.
وقال مجاهد: هو التمهيد للقبر.
وقال الزمخشري: وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.
انتهى.
وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} واللام في {ليجزي} قال الزمخشري: متعلق بيمهدون، تعليل له وتكرير {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح.
وقوله: {إنه لا يحب الكافرين} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس.
قال ابن عطية: ليجزي متعلق بيصدعون، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى: {من كفر} {ومن عمل صالحًا}. انتهى.
ويكون قسم {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفًا تقديره: كأنه قال: والكافرون بعدله، ودل على حذف هذا القسيم قوله: {إنه لا يحب الكافرين}.
ومعنى نفي الحب هنا: أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته، ولا يرضى الكفر لهم دينًا.
وقال الزمخشري: {من فضله} بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو أراد من عطائه، وهو ثوابه، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. اهـ.